هذه أمى التى ماتت، وقد قاربت التسعين ، لم تعرف من الأيام إلا ما انقضى من عمرها وانطوت آثاره فى صدرها!لم تكن أيامها إلا نهارات ، تسير الشمس فيها من جدار لجدار ، لم تكن إلا نهارا ينقضى إثر نهار ، لم تكن أيامها إلا نهارا واحدا ، تقطعه عودا على بدء، توافى نولها ، تنسج ما يغزله الفجر من العتمة والضوء ، وما تحمله الطير لها ، فإذا ما غابت الشمس، وضاقت حولها الآفاق ، هدت غزلها ، ثم نادت أهلها الموتى ، وقالت قولها فيهم وشدت فى المساءات إليهم رحلها!منذ كانت طفلة، كان لها الفقدان بالمرصاد ، لا تمنحها الأقدار إلا ريثما تسلبها الأقدار ما فى يدهافلها الأمس الذى أصبح عمرا ثانيا يمتد باليوم الذى تفقده من غدها ، ولها من أهله الموتى رسوم فى محاريب ، تناديهم، فلا يسمعها غيرى، ولايبكى سواى!وأنا أذكر أمى فى صباها وصباى ، كنت طفلا ، لا أرى فى المرأة الكاشفة الساقين إلا أنها أمى التى تجلس للمرآة ، تفشى عطرها الفواح أو ترسم فيها كحلها ، ثم تمشى فى ظلال الصيف كالطيف.لها خدان من ورد ، وعينان كما لو كانتا ، من ذلك الحلم الذى تسهر فيه ليلها ، كنت طفلا ، لا أرى فيها سوى أمى وكانت هى لا تعرف فى الطفل ، الذى يملأ من فتنتها عينيه.. إلا طفلها!لم يكن إلا أنا فى بيتها ، فلمن كانت إذن زينتها ، وهى تنادى أهلها الموتى بما فى صوتها من شجن عذب ، وما فى صمتها ، وأنا أتبعها منفطر القلب، وأبكى مثلها!كنت مسحورا ، وكان الموت قد أصبح فى أغنياتها جارا لنا ، أو شقيقا توأما للراحل الغائبيأتى معه فى حلمنا ، يتراءى الوجه فى الوجه كظل راقص فى الماء ، أو مثل فراش حائم من فوق وجه نائم ينأى بعيدا ، كلما نادته أمى وهى تعدو خلفه واولداه!وكأنى لم أكن طفلا ، وأمى لم تكن تلك التى تبكى ذويها وهى تعدو فى الضحى حافية محلولة الشعر ، كما لو أنها كانت تصلى لإله لا نراه!وأنا أتبعها فى وحشة الدار ، وأعدو معها خلف جمال فاجع يهرب من ذاكرتى إيقاعه الآنوتستخفى رؤاه!هكذا سارت بها الأيام ، لم تعرف سوى الفقد ، ولم يبق على العهد سوى الحزن الذى كان لها خلا وفيا ، مثلما كانت له خلا وفيا ، لم تزل تبكى على الأموات حتى لم يعد دمع، وحتى ابيضت العينان ، واسود المدى شيئا فشيئا ، كلما فارقها لون من الألوان ، كانت تقتفى آثاره بالذاكرة ، وتلاقيه بوجه باسم فى سرها ، وتنادينى ......كأنى لم أزل فى حجرها !
أحمد عبد العطى حجازى
هذه الكلمات أثرت فى وتركت معانى جميلة فى داخلى ، ولكن السؤال الذى يؤرقنى هو ما أتناقش فيه مع أصدقائى كثيرا ، هل لو عدلت طريقة الكتابه الى الشكل الموجود هنــــا يكفى لكى أطلق عليه شعرا ؟
أحمد عبد العطى حجازى
هذه الكلمات أثرت فى وتركت معانى جميلة فى داخلى ، ولكن السؤال الذى يؤرقنى هو ما أتناقش فيه مع أصدقائى كثيرا ، هل لو عدلت طريقة الكتابه الى الشكل الموجود هنــــا يكفى لكى أطلق عليه شعرا ؟